الأفعى غيّرت جلدها.. «البعث» اللبناني بإسم جديد

مثل هذه الأحزاب عائق ثقيل على السياسة، كأكياس قديمة محشوة بتاريخ لم يعد صالحاً للإستخدام.
الأفعى غيّرت جلدها.. «البعث» اللبناني بإسم جديد
لم تكن الضاحية الجنوبية بحاجة إلى مزيد من العروض الجانبية كي تُثقل مسرح السياسة اللبنانية، لكن الأمين العام لحزب «البعث العربي الإشتراكي» في لبنان، علي حجازي، قرر أن يضيف فقرة جديدة إلى هذا المسرح الذي غاب ممثلوه. مؤتمر صحفي حضره بالكاد مئة شخص، نصفهم من الإعلاميين والمصورين الذين جاؤوا بدافع الواجب المهني لا الانتماء السياسي، ليُعلن فيه حجازي أنّ «البعث» لن يكون إسمه «البعث» بعد اليوم، بل «حزب الراية الوطني». وكأنّ تغيير الإسم هو الطقس السحري القادر على غسل تاريخ كامل من الإرتهان والجمود والتبعية، أو القادر على إنعاش جسد سياسي لا نبض فيه.
لكنّ الحفلة الصغيرة التي أقامها حجازي لا تخفي حقيقة أكبر: الأفعى غيّرت جلدها، لكنها بقيت الأفعى نفسها. تبدلت القشرة، واحتُفل باللحظة، لكن بنية الحزب، لغته، وظيفته، وانتماؤه، ظلت كما هي، عالقة في الزمن ومتخشبة على صورة الماضي.
من يستمع إلى خطاب حجازي يظنه عالقاً في قاعة مدرسية من سبعينيات القرن الماضي. «لا نشكل قطيعة مع الماضي»، «لا إنقلاب على الخيارات ولا على الثوابت»، «لم يفرض علينا أحد تغيير الإسم»، «نحن مصممون على استكمال المسيرة» … تبرير فوق تبرير فوق تبرير، وكأنّ الرجل يعرف في أعماقه أنّ ما يقوم به ليس سوى عملية تجميل سطحية، محاولة لتدوير صورة حزب فقد مبرر وجوده بعد سقوط النظام السوري وانهيار سلطة «البعث» في دمشق وهروب بشار الأسد خارج المنطقة وخارج التاريخ والجغرافيا.
والمفارقة أنّ الخطاب الذي ألقاه حجازي، بكل كلماته ومصطلحاته وطقوسه، بدا كأنّه بُعث من زمن الأحزاب العقائدية الثقيلة. حديث عن «الأمة»، عن «الاحتلال الأميركي والصهيوني»، عن «التقسيم»، عن «المشاريع التوسعية». نفس القاموس القديم المملوء بالغبار، نفس النظرية التي لم تعد تملك جمهوراً يُنصت أو واقعاً يبرر وجودها. حتى حين أعلن تغيير إسم الحزب، أصر على أن يظل خطابه كما هو، وكأنّ المريض حين يبدل ثيابه يقنع الناس بأنّه شفي من مرضه المزمن.
والأدهى أنّ الحماسة المتوترة التي تحدث بها حجازي، وطبقة الصوت العالية التي لجأ إليها في أكثر من موقع من كلمته، فضحت ارتباكه أكثر مما سترته. كان يصرخ أكثر مما يشرح، وكأنّه يحاول تعويض غياب الجمهور بحجم الصوت، أو إخفاء هشاشة اللحظة بصلابة مفتعلة.
الحقيقة البسيطة التي يحاول حجازي إخفاءها أنّ تغيير الإسم لا يُغيّر الواقع. فالحزب، مهما سمّى نفسه، سيبقى حزباً ملحقاً بـ«حزب الله»، بلا هوية وطنية، بلا مشروع لبناني، وبلا رؤية تجاه الدولة التي يدّعي العمل ضمنها. أولوياته ليست لبنان، بل فلسطين بصيغتها الشعاراتية، ومحاور المقاومة بصيغتها السياسية، والولاء لأجندة خارجية لم تعد تُقنع أحداً ولا تجلب له إلا مزيداً من العزلة.
هذا الحزب لم يكن يوماً مشروعاً قادراً على التأثير الحقيقي في الحياة اللبنانية، وحضوره في الشارع هزيل إلى حد يمكن قياسه بعدد الكاميرات التي تحضر مؤتمراته، لا بعدد المناصرين. ولا توجد أي إمكانية لأن يشكّل قوة سياسية فاعلة، لا اليوم ولا غداً ولا بعد عقد من الزمن. كل ما يريده علي حجازي هو أمر آخر تماماً، حفظ مقعد صغير له على لائحة «حزب الله» في الانتخابات النيابية المقبلة، ليس أكثر. مشروع شخصي، لا مشروع حزب. استثمار وظيفي محدود، لا رؤية سياسية.
«حزب الراية الوطني» ليس إلا محاولة التفاف على هوية محروقة. حزب يهرب من مشكلته، يغيّر شكله بدل أن يواجه جوهره، يبدّل لافتته بدل أن يعيد بناء نفسه. و«الراية» في النهاية ليست إلا إسماً آخر لحزب لم يتغيّر فيه شيء سوى الطباعة على الورق. لا هو حزب جديد، ولا مشروع جديد، ولا بداية جديدة. هو محاولة هروب من إسم احترق.
وتبقى المشكلة الأكبر أنّ مثل هذه الأحزاب، حين تستمر بهذا الشكل، تتحوّل إلى عائق ثقيل على السياسة، تماماً كأكياس قديمة محشوة بتاريخ لم يعد صالحاً للاستخدام. كل مؤتمر صحفي كهذا ليس إعلان ولادة جديدة، بل تأكيد على موت قديم لم يُدفن بعد.
الأفعى تستطيع أن تغيّر جلدها مرات كثيرة. لكن السمّ يبقى السمّ نفسه.
جو حمورة



