الساحل السوري يطلق شرارة صراع جديد وغياث دلا يقود المواجهة

دمشق – النهار
اشتعل، أمس، الساحل السوري عن بكرة أبيه في أضخم تحرك شعبي وعسكري ضد الحكم الانتقالي بقيادة أحمد الشرع، منذ سقوط نظام الأسد. جاء الاشتعال من حيث توقيته واتّساعه مفاجئاً بكل المقاييس، لكنه لم يكن أبداً خارج التوقعات من حيث المبدأ، لا سيّما مع تصاعد نبرة الاتهامات والاتهامات المتبادلة حول التحريض الطائفي وارتكاب الانتهاكات أو الانتساب إلى فلول النظام.
سوف تختلف الروايات حول كيفية بدء هذا التصعيد النوعي والخطير، ولن يكون من السهل استخلاص التفاصيل الدقيقة والصحيحة وسط سيل الأخبار المضلّلة، التي يتبعها طرفا الصراع. لكن ما هو مؤكد أن الصراع نقل المشهد السوري إلى مرحلة بغاية الخطورة، خصوصاً مع التأطير الأخير لقيادة مسلّحي الساحل ضد هيئة تحرير الشام. وقد عاد إلى الواجهة العميد غياث دلّا أحد قادة الفرقة الرابعة المنحلّة، معلناً تشكيل المجلس العسكري لتحرير سوريا، في خطوة من شأنها أن تُدخل البلاد في أتون حرب أهلية جديدة، خصوصاً في ظل التعزيزات العسكرية الكبيرة التي اتجهت نحو الساحل من مختلف محافظات البلاد.
ثمة فرضيّتان اثنتان تحكمان تفسير التصعيد الأخير؛ الأولى ما دأبت السلطة الانتقالية على قوله من أنها تواجه مخططاً يقوده فلول النظام السابق ضدها عبر زعزعة الأمن والاستقرار، وهو ما دفعها باستمرار إلى شنّ حملات أمنية في مناطق عدة. والثانية هي فرضية تعرض الأقليات، لا سيما العلويين، للاضطهاد والانتهاكات والعزل السياسي، مما جعلها مضطرة إلى الدفاع عن نفسها. ووسط هذا التضارب، لم يكن من المستغرب أن تسوّق وسائل الإعلام الموالية لفكرة أن السلطة الانتقالية واجهت أمس محاولة انقلاب اتفقت عليها الأقليات (الدروز والعلويين والأكراد) بدعم خارجي، من إيران بشكل خاصّ.
وكشفت التطورات عن حقائق أساسية لم يعد بالإمكان التغاضي عنها أو تجاهلها، ومن أبرزها: أن سيطرة هيئة تحرير الشام في جبال الساحل وأريافه كانت ناتجة عن قبول شعبيّ مشروط بتحقيق الأمن والأمان. وعندما انعدم هذا القبول فقدت قوات الهيئة السيطرة على معظم هذه الجبال والأرياف خلال ساعات قليلة. ومما تجدر الإشارة إليه أن فقدان السيطرة حصل في مناطق كثيرة من دون أيّ اشتباكات، بينما احتاج في بعض المناطق إلى اشتباكات خفيفة، وذلك على خلاف ما شهدته مدينتا جبلة واللاذقية اللتان شهدتا أعنف المعارك بكلّ ما في الكلمة من معنى.
والحقيقة الثانية أنه بعد عشرات الحملات الأمنية التي قامت بها قوات الأمن العام بذريعة جمع السلاح والقضاء على فلول النظام، تبين أن هذه الحملات لم تؤدِّ أبداً إلى الهدف المقصود منها، وأن السلاح ما زال منتشراً في معظم المناطق، وبكميات لا يُستهان بها، ولكنه لم يظهر حتى الآن وجود أسلحة ثقيلة بأيدي المسلحين.
“العميد دلّا له ارتباطات واسعة مع دول وجهات عدة، أبرزها روسيا وإيران وحزب الله”
وفي هذا السياق، ذكرت مصادر محلية لـ “النهار” أنه رداً على قيام عناصر الأمن بإطلاق الرصاص على المتظاهرين الذين خرجوا بدعوة من المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، بهدف تفريقهم، أطلق بعض المدنيين النار باتجاه عناصر الأمن، لكنهم لم يكونوا بين المتظاهرين كما شددت المصادر.
والحقيقة الثالثة أن الشرخ الاجتماعي والطائفي في سوريا أعمق مما يُظنّ، وبالتالي فهو يحتاج إلى حلول جدية وعميقة، وإلا فإنه سيظلّ بمثابة الفالق الذي يمكن أن ينتج عنه زلزال مدمّر في أيّ وقت.
من الناحية العسكرية، بات من المؤكد أن سوريا وصلت إلى منعطف جديد وخطير وضعها على حافة حرب أهلية جديدة، لأن الأغلبية من قوات الأمن والجيش تنتمي إلى الطائفة السنية، بينما أغلب المسلحين المناهضين لها ينتمون إلى الطائفة العلوية. وبالرغم من اختلال موازين القوة بين الطرفين، فإنه من المهم الإشارة إلى أن العلويين قد تبلورت لديهم قضية جوهرية تحثّهم على الدفاع عنها، هي قضية –باعتقادهم- تتعلق بوجودهم؛ وهذا سيشكل حافزاً قوياً للقتال، إلى جانب ما يُعرف عن العميد غياث دلّا، الذي أعلن تشكيل المجلس العسكري، من كونه رجلاً متمرّساً بالحروب والمعارك وذا خبرة واسعة في الفصائل التي منها تشكّل الجيش السوري الجديد. فهو قاد ضدها معارك كثيرة في الغوطة والقابون ودرعا وغيرها خلال السنوات السابقة. كذلك، فإن العميد دلّا له ارتباطات واسعة مع دول وجهات عدة، أبرزها روسيا وإيران وحزب الله، ومن المستبعد أن يكون اتخذ قرار المواجهة من دون تنسيق أو الحصول على ضوء أخضر من إحدى هذه الجهات. ومن شأن ذلك أن يضفي مزيداً من التعقيد على المرحلة الجديدة في سوريا، وقد يتسبّب ذلك بتحوّلها إلى ساحة صراع دوليّ مرّة أخرى، مع عدم تجاهل خطر التقسيم الذي بات يخيم فوق البلاد من أكثر من جهة، لا سيّما مع التطورات في السويداء.
وفي هذا السياق، أكّد مصدر خاصّ لـ “النهار” أن العميد غياث دلّا كان في قاعدة حميميم قبل أربعة أيام فقط من دون معرفة أسباب وجوده هناك، كما لم يعرف ما إذا غادر القاعدة أم لا. وأشار المصدر إلى أن خطوة الإعلان عن المجلس العسكري كانت مقررة في العاشر من الشهر الجاري غير أن الهجوم على بيت عانا والدالية اضطر غياث دلّا إلى تقريب الموعد.
أما من الناحية السياسية، فيبدو أن الخاسر الأكبر سيكون أحمد الشرع رئيس سوريا الانتقالي، حيث امتدت الاحتجاجات ضده من السويداء في الجنوب إلى الساحل في الغرب. وقد أطلقت هذه الاحتجاجات هتافات تدعو إلى إسقاطه للمرة الأولى منذ استلامه الحكم في البلاد بعد فرار بشار الأسد.
وسوف يظه ر الشرع عملياً نتيجة ذلك وكأنه خسر دعم الأقليات، وفي مقدّمها الأكراد والعلويون والدروز، ممّا سيجعل صورته كرئيس قويّ يحكم وفق مبدأ الشرعية الثورية تتعرّض لهزّة قوية؛ ومن المحتمل أن يترك ذلك تأثيره على قراءة العديد من الدول للمشهد السوري ومآله.
ميدانياً، يمكن القول إن أرياف الساحل السوري خرجت عملياً عن سيطرة الأمن العام والجيش السوري، وأصبحت قوات المجلس العسكري تسيطر على مناطق شاسعة، لا سيما في جبلة وريفها، حيث لم يعد لقوات الأمن من حضور سوى في الكلية البحرية. وأكدت مصادر مقرّبة من المجلس العسكري لـ”النهار” أن قواته أصبحت تسيطر على محاور جبلة كافة، وأهمّها محور السخابة وبيت ياشوط والبودي، كما أنها تسيطر على أحياء من مدينة اللاذقية مثل الزراعة والدعتور ودمسرخو، بالإضافة إلى القرداحة وريفها. وكذلك سيطرت قوات المجلس على مطار سطامو بالمروحيات الموجودة فيه وعلى مدرسة البحرية.
كذلك خرجت أرياف طرطوس كاملة عن سيطرة الأمن العام ووزارة الدفاع، بما فيها الدريكيش وصافيتا والشيخ بدر. وفي بانياس، توجد قوات الأمن في المدينة فقط أما في الريف فالسيطرة للمجلس العسكري.