أميركا تُصالح السنّة في العالم… إعادة ترتيب التحالفات بعد ربع قرن من الصراع

قبل ربع قرن، كان المشهد الدولي يتسم بالاضطراب والتوتر، وبلغت أزمة الهوية السياسية للبيئة السنية ذروتها مع تفجيري برجي التجارة في نيويورك عام 2001، حيث تحوّل حدث إرهابي محدّد إلى عنوان أمني واستراتيجي عالمي، فرض على السنّة في جميع أنحاء العالم وضعاً صعباً، حمل في طياته افتراضات وأحكاماً مسبقة، وألقى بظلال طويلة على علاقتهم بالسياسة الدولية. لم يكن هذا الواقع مجرد انعكاس لمصالح ضيقة، بل نتيجة لسياق عالمي معقّد، حيث تعقّدت صورة السنّة في العقل الغربي نتيجة التوترات الأمنية والسياسية التي تبعت الهجمات، وتحوّلت إلى أحد محددات السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، تبدو التحولات العالمية والاقليمية قد فتحت الباب أمام إعادة تقييم هذه العلاقة، ليس كردة فعل أخلاقية أو سياسية فحسب، بل كنتيجة للتغيرات الهيكلية في بيئة الأمن الدولي وتوازن القوى الإقليمية.
طيّ صفحة “11 سبتمبر” وعواقبها على السنّة عالمياً
الأحداث التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) لم تقتصر على الرد العسكري المباشر في أفغانستان و العراق فحسب، بل امتدت لتشمل مراجعة شاملة للسياسات الأمنية الأميركية تجاه العالم الإسلامي. في هذه المرحلة، وجد السنّة أنفسهم في موقع دفاعي دائم، حيث ارتبطت هويتهم بمفهوم “الأمن العالمي” بطرق ألغت الفروق بين الجماعات، ودفعت المجتمعات السنية إلى تحمل كلفة اجتماعية وسياسية كبيرة.
خلال العقدين الماضيين، كانت هناك محاولات مستمرة من قبل واشنطن لمعالجة نتائج هذه السياسات، لكن السياق الدولي، بما في ذلك صعود قوى إقليمية أخرى، جعل هذه العملية بطيئة ومعقدة. هذه الخلفية تؤكد أن المصالحة الحالية ليست مفاجئة، بل هي نتيجة تراكم التغيرات التي فرضها التوازن الدولي الجديد، والذي أضحى يعترف اليوم بأهمية إشراك السنّة كقوة فاعلة في صياغة حلول مستدامة للأزمات الإقليمية.
تصحيح نتائج حربي أفغانستان والعراق
أظهرت التجربة الأميركية في أفغانستان والعراق أن الاستراتيجية القائمة على فرض الهيمنة العسكرية لا تحقق الاستقرار الدائم، بل غالباً ما تولد أزمات متتالية. في كل من كابول وبغداد، أثبتت السنوات أن استبعاد السنّة عن المعادلات السياسية يؤجج التوترات الداخلية ويعيق فرص الاستقرار الإقليمي.
اليوم، يُلاحظ تحول في السياسة الأميركية نحو مراعاة التوازنات المحلية والمجتمعية، بما يتيح للسنّة استعادة دورهم الطبيعي في الحكم والمجتمع، ليس كفعل حسن نية من واشنطن، بل كضرورة لضمان فاعلية أي خطة سياسية أو اقتصادية في المنطقة.
هذا التحول يوضح أن العلاقة مع السنّة لم تعد أداة احتواء عابرة، بل عنصر أساسي في إعادة بناء النظام الإقليمي واستقرار دول الشرق الأوسط.
حل أزمة غزة: دور الكتلة السنية العالمية
في سياق إعادة ترتيب الأوراق، أصبح الملف الفلسطيني محوراً حاسماً لإعادة دمج السنّة في صياغة السياسات الدولية.
الحلول الجارية في غزة لا تقوم على المشاركة الأميركية وحدها، بل تستفيد من دعم جماعي للكتلة السنية، التي تشمل المملكة العربية السعودية، مصر ، ماليزيا، إندونيسيا، الإمارات، قطر، تركيا، وباكستان، لتوفير الغطاء الشرعي والسياسي الضروري لإعادة بناء القطاع وضمان استقرار طويل المدى. هذا الدعم يوضح أن أي عملية سياسية مستدامة لا يمكن أن تنجح إلا عبر شراكة واسعة للسنّة، بما يوفر توازناً بين القوى الإقليمية ويتيح مساحة لتحرك أميركي يراعي مصالح الأطراف كافة.
وهكذا، يبرز الدور الحاسم للسنّة ليس كمتفرجين على أحداث غزة، بل كفاعلين مؤثرين في صياغة حلول ملموسة ومقبولة دوليا”، وهذا ما أكدته قمة “شرم الشيخ للسلام”، وقبلها “إعلان نيويورك” لحل الدولتين.
عودة الحكم السنّي في سوريا برعاية دعم دولي
بعد عقود من الحضور الهامشي والاضطهاد السياسي، يظهر اليوم اتجاه واضح نحو إعادة التوازن في سوريا، حيث يشكل إشراك السنّة في السلطة الوطنية خطوة استراتيجية لإعادة الاستقرار. الدعم الأميركي في هذا السياق لا يمكن النظر إليه كامتياز سياسي، بل كأداة لتحقيق توازن القوة مع الأطراف الإقليمية الأخرى وضمان قدرة الدولة السورية على التعايش داخلياً وخارجياً.
هذه العملية، رغم تعقيداتها، تعكس تحولاً في الفهم الدولي لدور السنّة، وتحوله من عامل مخاطرة إلى عنصر استقرار ضروري لأي حلول سياسية أو أمنية في الشرق الأوسط.
بناء حلف سنّي لتطويق إيران وردع إسرائيل
التجربة الدولية أظهرت أن تحالفات القوى المتجانسة ثقافياً وسياسياً تُعدّ أداة أساسية في تحقيق الاستقرار الإقليمي. في هذا السياق، تتجه السياسات الدولية نحو دعم بناء حلف سنّي واسع يضم الدول ذات الوزن السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، بما في ذلك دول الخليج وتركيا وباكستان، ليعمل كعامل توازن ضد النفوذ الإيراني، وفي الوقت نفسه لتوفير قدرة جماعية للردع تجاه إسرائيل عند الحدود الاستراتيجية. هذا التحرك لا يجب النظر إليه بوصفه تحالفاً هجوميًا، بل كشبكة أمان إقليمية تعزز من القدرة على إدارة النزاعات والتفاوض ضمن أطر دبلوماسية أكثر فاعلية.
نحو شرق أوسط متشارك في إرساء السلام
كل هذه التحولات تمثل جزءاً من إعادة ترتيب النظام الإقليمي بحيث يُتاح للسنّة، بوصفهم قوة اجتماعية وسياسية مركزية، المشاركة في صياغة مستقبل الشرق الأوسط. تمكين السنّة لا يُعدّ هدية أو مكافأة، بل شرطاً ضروريًا لتحقيق استقرار شامل ومستدام. الشرق الأوسط الجديد، القادر على إدارة النزاعات وتحقيق التنمية، لن ينجح إلا عبر مشاركة الكتل الأساسية في المنطقة، وعلى رأسها السنّة، في هندسة السياسات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تضمن سلاماً طويل المدى.
تغيرات هيكيلية في البيئة الدولية
إن التحولات الراهنة في السياسة الأميركية تجاه السنّة، بما في ذلك إعادة ترتيب العلاقات مع دول الخليج، ودعم الحلول المستدامة في غزة، وإعادة النظر في الملف السوري، تمثل انعكاساً لتغيرات هيكلية في البيئة الدولية أكثر من كونها خياراً أخلاقياً. المصالحة مع السنّة، التي يبدو أنها تتخذ شكلاً عملياً أكثر من كونها رمزية، تعكس إدراكاً بأن أي استقرار في الشرق الأوسط لن يتحقق دون إشراكهم كقوة فاعلة، وبأنهم عنصر أساسي في صياغة حلول سياسية متوازنة ومستدامة، تتيح للمنطقة أن تتحرك نحو شرق أوسط أكثر تعاوناً واستقراراً.
الأمين العام لتيار “المستقبل” – احمد الحريري



