Ad Cover
أخبار لبنان

“دخان كثيف لحجب القطب المخفية” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

تأخر حزب الله بعض الشيء قبل أن يصدر موقفه من مقررات مجلس الوزراء والمتعلقة بسلاحه. وقد يكون السبب مرده الى شعوره بالمفاجأة مما حصل لاسيما إثر الإتصالات التي كانت سبقت الجلسة. لكن هنالك من يعتقد أن السبب يعود لاستكشاف المناخ الإقليمي وتحديدا الإيراني، وتبيان السقف الذي يمكن أن يصل إليه اعتراضه.
وخلال الأيام التي جرى فيها التحضير لانعقاد الجلسة، أعرب حزب الله للرئيس نبيه بري عن توجسه من الأجواء التي تحيط بالورقة الأميركية، وأنه يريد مقاطعة الجلسة والتلويح باحتمال استقالة وزرائه من الحكومة. وكان جواب الرئيس بري بأن أي خطوة لحزب الله في أي اتجاه كانت ستشاركه بها حركة أمل. لكنه أردف بأنه أرسل الى رئيس الجمهورية طالبا تأجيل النقاش ببند السلاح لمدة أسبوع، لكن الجواب أتى سلبيا. وأضاف بري بأنه لا يرى مصلحة بمقاطعة الجلسة وإخلاء الساحة الحكومية. فعندها ستصدر قرارات عن مجلس الوزراء ليست في مصلحة الثنائي، وتصبح الأمور عندها في مكان آخر، خصوصا وأن الضغوط الخارجية كبيرة ومعروفة. وسمع حزب الله من الرئيس بري بأنه تلقى تطمينات بأن النقاش حول بند السلاح لن يذهب باتجاه تحديد مهل زمنية، أما في حال الذهاب في هذا الإتجاه فيمكن عندها الإنسحاب من الجلسة. إقتنع حزب الله بالمنطق الذي أورده بري وعدل عن فكرة المقاطعة. وبموازاة ذلك عمد أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم على تحديد كلمة له بالتزامن مع موعد انعقاد الجلسة. وجاءت كلمته نارية وعالية السقف وبحضور السفير الإيراني والذي ظهر على الشاشة وهو يشارك الحضور الإستماع للكلمة. والرسالة التي أرادها هنا كانت واضحة. وجاءت مفاجأة قاسم حين تحدث وللمرة الأولى عن أن وجود المقاومة هو دستوري وورد في اتفاق الطائف، وهو ما حمل لغطا كبيرا حول المقصود بذلك، جاء التوضيح لاحقا بأن كلامه هنا جاء ردا على الورقة التي قدمها الموفد الرئاسي الأميركي السفير توم براك والتي لحظت في مقدمتها الإشارة الى وثيقة الوفاق الوطني. وتاليا لم يكن المقصود من ذلك التلميح لأثمان دستورية.
لكن حزب الله بدا في حالة صدمة بعد إعلان رئيس الحكومة بنفسه ما تقرر حول البند المتعلق بالسلاح وإدراج مهلة نهاية السنة. لكن وعلى الرغم من انسحابه من الجلسة إعتراضا على ما تقرر، إلا أن الثنائي الشيعي لن يعمد لمقاطعة جلسة اليوم وبالتالي مقاطعة الحكومة. وهذا مؤشر بالغ الأهمية لا يقف عند الحسابات الداخلية فقط، لا بل أنه يمتد الى المناخ الإقليمي وتحديدا الإيراني. وصحيح أن الثنائي الشيعي سيتمسك بطلب العودة عما تقرر، لكنه يدرك جيدا أن ما كتب قد كتب، وأنه من المستحيل على الحكومة العودة عن القرار لأن ذلك سيعني سقوط ليس فقط الحكومة ولكن أيضا كامل التركيبة التي نشأت منذ انتخاب الرئيس جوزف عون، وهو ما يبدو مستحيلا أقله وفق الحسابات الحالية. لذلك سيضغط الثنائي الشيعي باتجاه إدخال تعديل على القرار من خلال إضافة الطلب بأن يحصل ذلك ضمن هذه المهلة ولكن بعد إلزام إسرائيل بوقف اعتداءاتها، وتنفيذ انسحابها من جنوب لبنان.
وثمة مؤشر ثان لا يقل أهمية. فخلال الأيام التي سبقت إنعقاد الجلسة ساد لغط كبير حيال احتمال انفلات الوضع الأمني في الشارع في حال تجاوبت الحكومة ووحددت مهلا زمنية. وبعض هذا اللغط جاء بسبب حال “الشوشرة” عند الناس، أما بعضه الآخر فكان مقصودا وبهدف التهويل والضغط. لكن وعلى الرغم من صدور القرار الصادم، إلا أن الشارع لم يتحرك، وبقيت ردود الفعل في إطار ضيق وليس في إطار قرار كما حصل في 7 أيار 2008. وهو ما يثبت مرة ثانية بأن المناخ الإقليمي لا يحبذ الذهاب الى صدام داخلي مع الجيش اللبناني. فلذلك معناه بأن إيران باشرت خطة تقضي بإسقاط المعادلة الجديدة التي نشأت في لبنان برعاية أميركية وسعودية، ولهذا الأمر أكلافه وتداعياته. ومن هذه الزاوية لا بد من قراءة الأبعاد الحقيقية لما جرى، والسعي لفكفكة القطب المخفية. صحيح أن الشارع اللبناني غرق في التفاصيل المحلية لما حدث، لكن الواقعية تفرض قراءة المشهد اللبناني من خلال اللوحة الإقليمية الشاملة، طالما أن الجميع يقر بأن ما حصل جاء في سياق ترتيب الخارطة السياسية الجديدة للمنطقة بين واشنطن والرياض من جهة وطهران من جهة أخرى، ولبنان يشكل أحد أجزاء هذا الترتيب الجديد.
وخلال الأسابيع الماضية بدت الأجواء ملبدة بين واشنطن وطهران، أو على الأقل هذا ما ظهر عبر المواقف المعلنة ولاسيما حول الملف النووي الإيراني. وهكذا اندفع الحشد الشعبي في العراق لوضع إطار مؤسساتي وقانوني لهيكليته بشكل مستقل وبمعزل عن وزارتي الداخلية والدفاع. وفي اليمن استعاد الحوثيون نبرتهم الهجومية مرة بتهديد الممرات المائية، ومرة أخرى باستهداف إسرائيل بالصواريخ. أما في غزة فتعثر إتفاق وقف النار وسط تحميل واشنطن المسؤولية لحماس وضمنا لطهران. وفي لبنان استعاد حزب الله سلوكه المشاكس من خلال رفضه التجاوب مع مسعى توم براك الذي غادر بيروت فيما يشبه فشل مهمته. وكان كل ذلك يترافق مع إعلان طهران رفضها المطلب الأميركي بمنعها من التخصيب.
في الواقع وبعد انتهاء حرب ال12 يوما على إيران، تحدثت أوساط أميركية عن مهلة زمنية تحتاجها إيران لإعادة تعويض خسائرها وإعادة ترميم مشروعها وتقدر بحوالي السنة. وبالتالي فإن طهران تود استهلاك هذه الفترة بشراء الوقت من خلال التفاوض والمراوحة، تمهيدا لإعادة ترميم برنامجها النووي وإعادة تصنيع قدراتها الصاروخية، وخلق ممرات جديدة تؤمن تواصلها مع حلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا. ومن البديهي توقع حصول تحرك أميركي بهدف منع إيران من تحقيق مبتغاها. كذلك اندفعت واشنطن في خطة تقضي بخنق كل المسارب التي تعتمدها إيران لتأمين ما تحتاجه من عملات صعبة، من خلال تهريب النفط عبر الأسواق السوداء. لذلك تواصلت واشنطن مع لندن وباريس وبرلين لفرض عقوبات إقتصادية أوروبية على طهران. لكن إدارة ترامب تدرك بأن هذه الخطوة تبقى ناقصة خصوصا وأن معظم النفط الإيراني المهرب تشتريه الصين بأسعار مخفضة. ولذلك باشرت واشنطن مفاوضات صعبة مع بكين لقطع هذا الشريان المالي الذي تتنفس منه الخزينة الإيرانية.
لكن القيادة الإيرانية والتي تعمل على لملمة النتائج الصعبة للحرب الجوية التي استهدفتها، تدرك ووفق دروس الحرب، بأن هامش حركتها بات ضيقا، أضف الى ذلك بأن فترة السنة التي تحتاجها ليست مدة قصيرة. فكيف إذا اشتدت عوامل حصارها وخنق اقتصادها؟
وخلال الأيام الماضية أرسلت إيران إشارة بالغة الأهمية من خلال تعيين علي لاريجاني أمينا للمجلس الأعلى للأمن القومي، والذي يتمتع بصلاحيات واسعة ومهمة. وصحيح أن لاريجاني ينتمي لجناح المحافظين، إلا أنه معروف بواقعيته واعتداله ما يجعله من خارج المجموعة المتشددة. وهذا ما أدى الى محاربته من متشددي الجناح المحافظ وبالتالي إقصاءه عن الساحة السياسية. وهو السبب الذي أدى الى رفض أهليته للإنتخابات الرئاسية عامي 2021 و2024. واستطرادا فإن إعادته الى موقع أساسي في هذه المرحلة بالذات له معناه الكبير، خصوصا وأن لاريجاني كان تقرب من الجناح الإصلاحي وتحديدا من فريق الرئيس السابق حسن روحاني. وعدا أن عودته تشكل دليلا على تراجع قوة المتشددين إثر نتائج الحرب الأخيرة، إلا أن الأهم بأن لاريجاني ومن خلال موقعه الجديد سيتولى المشاركة في هندسة السياسة الإقليمية لإيران وسط الصراع الحاصل ووصولا الى العلاقات مع السعودية وتركيا. إضافة الى ما يتعلق ببعض جوانب المفاوضات النووية. وبالتالي فإن “واقعية” لاريجاني سيجري ترجمتها على المستوى الأميركي وأيضا وخصوصا على المستوى السعودي، ولا حاجة للإشارة بأن الصراع الحاصل على الساحة اللبنانية تلعب فيه السعودية دورا أساسيا.
وعلى الضفة الأخرى هنالك إشارات أميركية إيجابية ومعبرة. فعلى الرغم من المواقف الإعلامية المتشنجة والتلويح باحتمال عودة الحرب، عمدت وزارة الدفاع الأميركية الى التخفيف من عديد قواتها في الشرق الأوسط وسحب قطع بحرية أساسية وصولا لإعادة حجم القوات الى ما كان عليه قبل الحرب ومرحلة التوتر. وهي إشارة واضحة بأن واقع الأمور الحقيقي لا يشي بالتصادم، لا بل على العكس بوجود تفاهمات غير معلنة. وهنا لا بد من التذكير بالكلام الذي كان أدلى به السفير توم براك خلال إحدى مقابلاته الإعلامية في بيروت بأن احتمال عدم حصول اتفاق مع إيران ضئيل جدا. ولا بد من الإشارة هنا الى الى الحركة الضاغطة التي تقوم بها الجالية الإيرانية في الولايات المتحدة الأميركية والتي تضم تجار وأشخاص نافذين (والعديد منهم معارض للنظام القائم) لصالح حصول تفاهم أميركي_إيراني.
هذه المؤشرات توحي بوجود شيء ما تجري حياكته في الكواليس بين إدارة ترامب وطهران. وهو ما يعني أن وجهة الأمور حيال كامل ملف المنطقة والصراع مع إيران لا يميل باتجاه الذهاب الى مواجهات جدية، ولا باستهداف إيران للمصالح الأميركية أو السعودية المستجدة والتي ظهرت كنتيجة للحروب التي اجتاحت المنطقة. ولكن هذا لا يمنع الإشتباك الإعلامي والسياسي، لا بل أن هذا الإشتباك قد يكون مطلوبا لتأمين الغطاء للتفاهمات العميقة الجاري حياكتها في الكواليس. وهو ما يفسر الضغط الأميركي والسعودي لإنجاز ملف السلاح الآن وقبل انتهاء السنة الحالية، وفي المقابل إكتفاء حزب الله باعتماد التصعيد السياسي ولكن من دون خطوات تؤذي التركيبة التي قامت منذ مطلع العام الحالي. ما يعني أن الحكومة باقية والصدام مع الجيش ممنوع. أي وباختصار، لا استعادة للسابع من أيار.
تبقى الإشارة الى نقطة أساسية تدركها جيدا طهران وتتعلق بالحساسية الإسرائيلية من حصول صفقة أميركية مع إيران. فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إندفع الى الأمام في حربه على غزة، وكأنه يريد حربا بلا نهاية. وهو أيضا يتحين الفرصة لاندفاع مماثل في لبنان. لكن المفاجىء إعتراض رئيس أركان الجيش الإسرائيلي زامير يئير وهو ما أثار دهشة المراقبين. فالأخير ينتمي لليمين الإسرائيلي، ويوم تعيينه جرى تصوير ما حصل بمثابة إنجاز ونقطة تحول داخل المؤسسة العسكرية. إلا أن هذا الخلاف كشف بشكل لا لبس فيه بأن الصراع الحاصل ليس مجرد تعارض في وجهات النظر كما كان نتنياهو يصور الأمور مع القادة السابقين، بل الى أن قرارات نتنياهو تنبع من اعتبارات سياسية وليس عسكرية أو أمنية بحتة. لذلك لا بد أن طهران تسعى لتفويت فرصة تقويض إسرائيل لأي تفاهمات مع واشنطن هي بأمس الحاجة إليها.
وفي المحصلة فإن الأصوات العالية التي سادت الساحة اللبنانية لن تتحول بالضرورة الى خطة عمل لتفجير المعادلة التي سادت مؤخرا والتي يجري العمل على تثبيتها وتمتينها، وسط بدء ظهور مرحلة صراع جديدة في سوريا وقد تمتد الى لبنان وعلى أنقاض حقبة النفوذ الإيراني. وهذا الصراع بدأ في سوريا بين إسرائيل وتركيا، وحيث باتت إدارة ترامب تقتنع بوجوب رسم خطوط حمر لشهية تركيا في سوريا والعراق والى حد ما لبنان. وهذا الصراع الجديد قد تؤدي الى حصول تقاطعات بين إيران وإسرائيل ولو من زاوية مختلفة كليا لكل منهما.

“الموقع غير مسؤول عن محتوى الخبر المنشور، حيث يتم نشره لأغراض إعلامية فقط.”

مقالات ذات صلة